طوت الحكومة الكويتية برئاسة سمو الشيخ جابر المبارك صفحتها الأخيرة بعد أن رفع سموه كتاب استقالتها إثر تطورات داخلية غير مسبوقة في مجلس الوزراء، تمثلت بالبلاغ المقدم من النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء الشيخ ناصر الصباح ضد نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية الشيخ خالد الجراح وآخرون، وتداعيات خارجية عكستها نتائج الاستجواب المقدم للجراح والآخر لوزير الأشغال العامة ووزير الدولة لشؤون الإسكان د. جنان بوشهري.
انقلاب أبيض
مجمل التطورات السياسية وتراتبيتها التي رسمت المسار النهائي لحكومة جابر المبارك الأخيرة تؤكد أن ما حدث انقلاب أبيض، نجح في إقصاء رئيس الوزراء ونائبه خالد الجراح من المشهد السياسي ، ولكنه فشل في تثبيت أقدام الشيخ ناصر الصباح في الحكومة وطريق مسند الإمارة.
يصف المبارك، في كتاب طلب إعفائه من تشكيل الحكومة الجديدة، ما ورد في مخاطبات ناصر الصباح له بشأن أموال صندوق الجيش والتحويلات المالية الى حساب سموه بأنها “أكاذيب لا صلة لها بالحقيقة صادرة بكل أسف من زميل وأخ تربطني به زمالة ورابطة أخوة وصداقة امتدت لأكثر من أربعين عاما”.
أما خالد الجراح، والذي أعفي من منصبه لاحقا، فهو الآخر لم يكن بيانه بشأن بلاغ “صندوق الجيش” سوى دلالة أخرى على حجم الصراع الداخلي في مجلس الوزراء وفي الأسرة الحاكمة، فيقول – واصفا ناصر الصباح – “تعمده إخفاء الحقيقة الكاملة عن الشعب الكويتي لا سيما الردود الواردة له وفي هذا التوقيت بالذات وبعد استقالة الحكومة رغم ادعائه بعلمه بالشبهات منذ أكثر من سبعة أشهر وهو ما يثبت الاهداف والتطلعات السياسية التي يبتغيها”.
ولم يكن مستقبل الشيخ ناصر الصباح أفضل حالا ممن سبقه، فهو الأخر أُبعد عن المشهد السياسي بأمر أميري أعفي فيه من منصبه، إلا أن رصيده الشعبي تصاعد بشكل متسارع منذ تقديمه البلاغ الى ما بعد قرار إعفاءه.
لجان التحقيق
كيف بدأ الانقلاب الأبيض؟ لم تكن الأحداث وليدة الساعات الأولى لتقديم ناصر الصباح بلاغاً ضد خالد الجراح وآخرون، بل نبتت جذوره منذ تشكيل وزير الدفاع لجنتي تحقيق، الأولى مطلع شهر يناير من العام الحالي في صفقات سلاح وتعاقدات عسكرية إضافة الى صفقة شراء طائرات “يوروفايتر”، والثانية بشأن صندوق الجيش منتصف مايو الماضي، وتفاقمت الأزمة الداخلية مع غيابه عن حضور جلسات مجلس الوزراء واعتذاره عنها في أكتوبر الماضي احتجاجا على الأوضاع داخل الحكومة واستمرار الجراح وزيرا.
ومع تقديم النائب رياض العدساني استجوابا لوزير الداخلية الشيخ خالد الجراح بنهاية شهر أكتوبر وقبل افتتاح دور الانعقاد الأخير بأيام، باتت الصورة أكثر وضوحا لأصحاب القرار في الحكومة وللوزير الجراح، فهم أمام مواجهتين في ملعبين مختلفين، ناصر الصباح في مجلس الوزراء ورياض العدساني في مجلس الأمة، وهنا كان لا بد من اتخاذ قرار يحمي الجراح أو يخرجه من مواجهاته بأقل الخسائر.
كان من الصعب التكهن بالخطوات القادمة لناصر الصباح، فهو شخصية يغلب عليها الطابع المزاجي، وقراراته لحظية لا تبنى بالضرورة على ترتيبات مسبقة، في المقابل فإن استجواب العدساني يمكن السيطرة على تبعاته لا سيما وان الجراح يملك كتلة نيابية يستطيع استخدامها كدرع برلماني لحمايته حتى لو قدم به طلبا لطرح الثقة.
تكتيك المواجهة
استقر “تكتيك المواجهة” على التعامل مع الاستجواب أولا وتجاوزه، وإن كان الثمن التضحية بوزير الأشغال العامة ووزير الدولة لشؤون الإسكان د. جنان بوشهري التي تواجه هي الأخرى معركة استجواب مقدم من النائب عمر الطبطبائي بذات جلسة مسائلة الجراح، وتصاعدت أكثر حظوظ هذا السيناريو مع استقالة وزير المالية د. نايف الحجرف وقبولها وسقوط الاستجواب الموجه له من النائب محمد هايف.
يعلم أصحاب القرار الحكومي أن زميلتهم د. جنان بوشهري لا تحظى بتأييد نيابي بسبب شدتها في التعامل مع أغلبية أعضاء مجلس الأمة ، ولا تستند على تيار يوفر لها الغطاء السياسي، أما علاقتها مع الكتلة الشيعية فهي غير مستقرة إذ لم تكن ممثلا لهم في الحكومة رغم انتمائها للطائفة، علاوة على ما سبق فإن تكتلات تجارية وإعلامية تسعى الى الإطاحة بها بعد قرارتها بحرمان كبرى شركات المقاولات والمكاتب الهندسية من المناقصات الحكومية.
العوامل السابقة وفرت الأرضية المناسبة للحكومة للتضحية بها، أو رفع يد الحماية عنها وتركها وحيدة في أرض المعركة، وإعطاء الكتلة النيابية الحكومية الضوء الأخضر لطرح الثقة بها لتخفيف الضغط الشعبي عنهم مقابل وقوفهم مع الجراح في استجوابه المقرر له مناقشته في جلسة سرية لإبعاد مواقع التواصل الاجتماعي من التأثير على تماسك الكتلة النيابية الحكومية كما حدث في أغلب استجوابات الشيوخ.
جلسة الاستجوابات
في صباح يوم ١٢ من الشهر الجاري، لم تجري رياح جلسة استجواب د. بوشهري بما تشتهيه السفن الحكومية أو حتى المستجوب النائب عمر الطبطبائي، إذ نجحت الوزيرة في كسب الرأي العام لصالحها عبر استعراض عقوباتها القانونية والمالية بكل شفافية ضد كبرى الشركات المحلية المتعثرة مشاريعها في وزارتي “الأشغال” و”الإسكان”، علاوة على ذلك تفوقها في تفنيد محاور الاستجواب.
أدركت الحكومة أن تدخلها بات ضرورة لإعادة التوازن في ساحة المعركة، فنجاح بوشهري يعني سقوط الجراح ، فدفعت نوابها الى تقديم كتاب طرح ثقة آخر وقع عليه ١٢ نائبا – أغلبهم من الكتلة الحكومية – وتسريبه الى وسائل التواصل الاجتماعي رغم أن الكتاب مخالف للائحة مجلس الأمة – رفض استلامه الرئيس مرزوق الغانم – الذي يلزم توقيعه من عشرة نواب فقط، وهو ما يؤكد النزعة الحكومية في الإطاحة بزميلتهم لحماية الجراح.
لم يغير طلب طرح الثقة الثاني الذي حمل أسماء نواب محسوبين على الحكومة وشركات ومؤسسات اعلامية من سير جلسة استجواب د. بوشهري التصاعدي، فقد واصلت الوزيرة رفع سقف خطابها السياسي، لتنهي مرافعتها الأخيرة بـ “استقالة تاريخية” من على منصة الاستجواب، ولعل أبرز ما ذكرته أنها لا تواجه نواب مجلس الأمة بل نواب الشركات والمصالح، وإن الإصلاح بات مستحيلا في قاعة عبدالله السالم.
خطاب الاستقالة ضاعف من الارتباك الحكومي، وأحرج النواب الموقعين على طلبي طرح الثقة ، لقد كسبت بوشهري الشارع الشعبي في كلمتها الأخيرة وتفاعل معها بصورة غير مسبوقة، فمن النوادر في العمل السياسي النيابي أن يصطف الشارع مع وزير ضد مستجوبه وموقعو طرح الثقة به.
أدرك النواب المحسوبين على الحكومة والشيخ خالد الجراح والشركات والمؤسسات الاعلامية، أن ما كان يفترض به أن يكون انتصارا تحول الى خسارة، والتوقيع على طرح الثقة في بوشهري أصبح عبء عليهم الأمر الذي فرض عليهم البحث عن مخرج لا سيما مع تصاعد الضغط الشعبي في وسائل التواصل الاجتماعي.
الارتباك الحكومي
الارتباك الحكومي إثر تداعيات استجواب بوشهري واستقالتها نتج عنه خطأ جسيم آخر في ترتيبات استجواب الجراح، فقد سقط طلب مناقشته في جلسة سرية وكُشف ظهره وأصبح هو ونواب الحكومة تحت رقابة الشارع العام، فلم تكن حسابات الحكومة دقيقة نظرا لاستقالة وزير المالية السابق د. نايف الحجرف واعتذار ناصر الصباح عن حضور الجلسة ومغادرة بوشهري عقب استجوابها، وكانت النتيجة ٣١ صوتا مع وضد، إلا أن تصويت رئيس مجلس الأمة مرزوق الغانم برفض السرية رجح الكفة، وهو موقف أثار الاستغراب، ورجحه البعض لاعتبارات انتخابية، وآخرون وصفوه بحرب بارده بينه وبين الجراح.
ما كانت تسعى الحكومة لتفاديه حدث، مناقشة علنية لأول ظهور للجراح على منصة المسائلة ، وبعد استجواب سابق رفع من سقف الأداء والحجة والتفنيد، لتنتهي المواجهة بتقديم عشرة نواب طلبا لطرح الثقة به، واشتعلت في مواقع التواصل الاجتماعي حملات الضغط على النواب لإعلان تأييد الطلب، أدركت الحكومة حينها أن ترتيبات حماية الجراح من الاستجواب في طريقها الى الانهيار.
وساءت الأوضاع في معسكر الشيخ خالد الجراح أكثر مع إعلان النواب أحمد الفضل ويوسف الفضالة وعبدالله الكندري تأييدهم لطرح الثقة.
بلاغ ناصر الصباح
مع تلك التطورات على الساحة البرلمانية، بات يقينا للشيخ ناصر الصباح أن خالد الجراح في أضعف حالاته السياسية والشعبية ، والدفاع عنه برلمانيا سينتج عنه عواقب وخيمة على النواب، فكانت الأجواء مهيأة تماما لتنفيذ “الانقلاب الأبيض”، فقدم بلاغه ضد الجراح بعد يومين من الاستجواب وقبل اسبوع من جلسة التصويت على طرح الثقة به ، مما شكل ضغطا أكبر على النواب ومنعهم من استعجال تحديد مواقفهم، وتحولت الأجواء الشعبية الى تأييد لبلاغ ناصر الصباح وتشكيك بذمة الجراح المالية.
انهار المعسكر الحكومي سياسيا وشعبيا بعد بلاغ ناصر الصباح، وحاول خالد الجراح إعادة التوازن عبر بيان الاستعداد للمثول أمام القضاء، ووجه اتهاما الى وزير الدفاع بأن دافعه ليس حماية المال العام بل رغبات سياسية يسعى لتحقيقها، بيد أن تسريب البلاغ وما تضمنه من اتهامات مباشرة بالاستيلاء على أموال “صندوق الجيش”، علاوة على ذلك تسريب الكتب الرسمية الموجه الى رئيس الوزراء سمو الشيخ جابر المبارك متضمنه “استفسارات” عن تحويلات مالية من الصندوق الى حسابه الشخصي في المملكة المتحدة، انهى المواجهة لصالح ناصر الصباح شعبيا، ولكن سياسيا أُبعد الجميع عن المشهد السياسي وطويتهم صحفتهم .
العهد الجديد
حافظ ناصر الصباح على شعبيته وحقق في ذلك انتصارا واسعا رغم خسارته السياسية التي يرجح أسبابها لتسريب البلاغ للنائب العام ومخاطباته مع رئيس الوزراء، أما سمو الشيخ جابر المبارك فوجد نفسه أمام مسؤولية اثبات براءته من مخالفات “صندوق الجيش” ، فيما أحيل الشيخ خالد الجراح الى لجنة محاكمة الوزراء ليواجه محاكمة “سرية” فرضتها تداعيات الأمن القومي والوطني بحسب بيان “محكمة الوزراء”.
لا شك أن مجريات الأحداث السابقة ستغير كثيرا من العمل السياسي في الكويت، وستحدث تغيرات مستقبلية داخل أسرة الحكم، وأثرها قد يمتد الى نتائج الانتخابات البرلمانية القادمة، فهل كان المشهد السياسي بحاجة فعلية الى هذا “الانقلاب الأبيض”؟ وكيف سيرسم رئيس الوزراء الجديد سمو الشيخ صباح الخالد عهده الجديد في ظل صراعات الأسرة ونزعة النواب الانتخابية؟
