استبعد مجلس الأمة في جلسته الختامية تقرير لجنة التحقيق البرلمانية بشأن حادثة الأمطار، التي تعرضت لها الكويت في نوفمبر من العام الماضي، من الإحالة الى النيابة العامة أسوة ببقية تقارير لجان التحقيق المدرجة على جدول أعمال الجلسة، مكتفيا بإحالة تقرير ديوان المحاسبة المرفق به دون اعتراض من رئيس اللجنة النائب د. عادل الدمخي أو أيٍ من أعضائها النائبين خالد المونس وخلف دميثير.
أثير الكثير من اللغط بشأن النتائج التي توصل لها التقرير، وذلك بعد نشره على موقع مجلس الأمة قبل ساعات من جلسة مناقشته، مما فتح باب التكهنات بشأن تدخلات شركات ومكاتب هندسية في توجيه دفة الإدانة النيابية بعيدا بعكس الإدانات التي وردت في تقريري ديوان المحاسبة ولجنة تقصي الحقائق الحكومية، فهل فعلا نجحت تلك الشركات في اختراق الحيادية المفترضة من لجنة التحقيق البرلمانية؟ وهل نفوذ “دولة الشركات” أثر على سير التحقيق النيابي لخدمة مصالحه؟
الشق الحكومي
وبالاطلاع على نتائج لجنة التحقيق البرلمانية يمكن الاستدلال على أن أعضائها ركزوا على الشق الحكومي بشكل موسع، وحددوا مسؤوليات الجهات الحكومية والوزراء كلا فيما يخص أعماله، وهي نقطة “إيجابية” في صالحهم، بيد أن تجاهل المسؤولية المترتبة على جانب الشركات والمكاتب الهندسية تمثل نقطة “سلبية” تثير الشكوك في النتائج التي توصل لها التحقيق.
فقد تم تحميل مجلس الوزراء ورئيسه ووزراء الأشغال العامة والإسكان والبلدية وهيئة الطرق ووزراء آخرون دون ذكر جهاتهم المسؤولية، كما تم الإشارة الى سمو الشيخ ناصر المحمد صراحة كرئيس مجلس الوزراء وتحميل حكومته – وليس شخصه أو صفته – اصدار قرار استثناء المدن الجديد من شروط استكمال البنية التحتية من اصدار رخص البناء في مدينة صباح الأحمد السكنية، وهو الاسم الوحيد الذي ورد في نتائج التقرير، وفي هذه الإشارة كما يبدو محاولة نيابية لمغازلة الشارع وكسب تأييده للتقرير نظرا للظروف السياسية لحكومة الشيخ ناصر المحمد الأخيرة والتداعيات التي واكبت قضايا الإيداعات المليونية والتحويلات الخارجية.
الجانب السياسي في إدانة الجهات الحكومية كان واضحا تماما، فكانت النتائج في التقرير تنتهي بصيغة مباشرة كـ “ترى اللجنة مسؤولية مجلس الوزراء ..”، “ترى اللجنة مسؤولية رئيس مجلس الوزراء ..” وهكذا بما شمل وزراء الأشغال العامة والإسكان والبلدية، وتم ابرازها بخط عريض كدلالة على النتيجة والحكم في كل موضوع بحثته اللجنة.
الجانب الفني
أما الجانب الفني المختص بمسؤوليات الشركات والمكاتب الهندسية في حادثة الأمطار، فاختلف التعامل معه تماما، رغم أن واجب التحقيق يتطلب الحيادية، وذكر مسؤولية كل شركة ومكتب هندسي على حده عن الأضرار التي لحقت في البنية التحتية والطرق، فتجاهلت اللجنة هذا الجانب المهم، وعدم الإشارة له قد يحمل دلالة البراءة والاستبعاد من الاتهام، وهذا هو العرف في التحقيقات بما فيها القضائية.
لقد أدان تقريري “تقصي الحقائق” وديوان المحاسبة بشكل مباشر شركات مقاولات مملوكة لعوائل اقتصادية كبيرة في الدولة، وكذلك مكاتب هندسية أحدهما يعود الى نائب سابق له نفوذه السياسي، وهو ما استندت عليه الحكومة في رفع مخاطبات الى الجهاز المركزي للمناقصات إتخذ على إثرها قرارات بحرمانهم من الدخول في المناقصات الحكومية الجديدة وشطبهم من سجلاته لسنوات متفاوتة.
الشركات المدانة
ولم تبد اللجنة رأيا فيما تضمنه التقريرين من إدانات للشركات والمكاتب الهندسية، وهذا بخلاف مسلكها وتعاملها مع الجانب الحكومي، وامتنعت عن الإفصاح عن رأيها في الشركات والمكاتب الهندسية المنفذة للمشاريع المتضررة تماما (مدينة صباح الأحمد السكنية – جسر المنفق – منطقة الفحيحيل)، فهل سقطت الشركات المنفذة والمكاتب الهندسية المصممة والمشرفة على تلك المشاريع من حسابات لجنة التحقيق البرلمانية سهوا أو عمدا؟
كان بالإمكان أن يكون الخيار الأول هو الإجابة لولا ما ورد في إحدى فقرات نتائج التحقيق مما يجعل الخيار الثاني هو الأقرب الى الصواب، فتذكر الفقرة ما يلي تعليقا على غرق نفق المنقف “فرغم كل ما قيل عن عيوب فنية في تصميمه وتنفيذه، إلا أن المكتب المصمم هو الذي قام بتصميم نفق الجهراء ونفق القيروان بنفس العقد، ومن قام بتنفيذ نفق الجهراء هي نفس المشركة المنفذة لنفق المنقف ومع هذا لم يقع الغرق في نفقي الجهراء والقيروان“! هذا دليل براءة قمدته اللجنة الى المكتب المصمم والمشرف وكذلك الشركة المنفذة! علما أن هذه المقارنة لا قيمة لها فعليا إن كانت اللجنة تبحث عن الحقيقة المجردة، ولكن أثرها كبير إن كانت اللجنة تسعى الى تقديم صك براءة.
شكوك وريبة
ومن باب الإنصاف، فإن لجنة التحقيق البرلمانية طالبت بمحاسبة شركات استشارية كلفت بإعداد دراسات عن السيول ومجاري الأمطار في الكويت، واللافت أن تلك الشركات لم توجه لهما اتهامات “فنية ومالية وقانونية” من قبل “التحقيق الحكومي” و”ديوان المحاسبة”، وهو ما يزيد الشكوك والريبة في أعمال اللجنة البرلمانية، فإن نظرت هذا الجانب “الفني المحدود” لماذا تجاهلت “القائمة الأشمل” من الشركات والمكاتب الهندسية المدانة والموقوفة حاليا؟ هذه الانتقائية في تكييف نتائج التقرير من شأنها نسف مصداقيته.
وطالبت اللجنة بـ “ضرورة محاسبة كل من تسبب في الأضرار سواء من الشركات أو المكاتب الاستشارية وكذلك المسؤولين والموظفين”، وهذه المطالبة لا تتفق مع مفهوم التحقيق الذي يبحث عن أدلة الإدانة أو البراءة ضد شخصية محددة، فكيف تتم محاسبة الشركات أو المكاتب الاستشارية واللجنة لم تدين أو تحمل المسؤولية أيا منها؟ هذه المطالبة تصلح كموقف سياسي عام لنائب ولكن لا يمكن أن تكون نتيجة تحقيق نيابي، فالشيوع بالمسؤولية دليل براءة آخر.
انهزام وتقاعس
خلاصة القول والاطلاع على نتائج التحقيق .. اللجنة تفوقت في اظهار المسؤولية الحكومية عن حادثة الأمطار ، ولكنها أخفت بيان مسؤولية الشركات والمكاتب الهندسية المعنية في المشاريع المنفذة بالمناطق المتضررة، وإن كان أعضاء اللجنة يرون في تحميل رئيس الوزراء الحالي المسؤولية جرأة غير مسبوقة، فإن إخفاء وتجاهل أسماء كشركة المجموعة المشتركة للمقاولات أو اتحاد المقاولون العرب أو دار الدويلة للاستشارات الهندسية – على سبيل المثال لا الحصر – انهزام وتقاعس غير مسبوق أيضا .
معركة “دولة الشركات” لم تنتهِ بانتهاء دور الانعقاد الثالث وختام أعمال جلساته، ولا بإحالة تقرير ديوان المحاسبة الى النيابة العامة، فهذا الفصل الأول منها ، أما الفصل الثاني فهو في مسرح السلطة التنفيذية التي تتوجه الأنظار لها بعد قرارها غير المسبوق بحرمان الشركات والمكاتب الهندسية المعنية من المناقصات الجديدة لسنوات، فهل تصمد الحكومة؟ أم تسير على نهج لجنة التحقيق البرلمانية وتنهزم أمام “دولة الشركات”؟
نسخة PDF: “دولة الشركات” تنتصر في “التحقيق البرلماني” .. فهل تخطف القرار الحكومي؟
