دارك بولتكس للاستشارات السياسية > شؤون برلمانية > ديوان المحاسبة .. واقع جديد فرضه الإهمال النيابي والتقاعس الحكومي

ديوان المحاسبة .. واقع جديد فرضه الإهمال النيابي والتقاعس الحكومي

أصدر ديوان المحاسبة مؤخرا تقاريره السنوية لأعمال الوزارات والجهات الحكومية متخما بالعديد من الملاحظات والمخالفات المالية التي رصدها خلال السنة المالية الماضية، في وقت سجل فيه الديوان خطوات غير مسبوقة لتحوله من جهاز رقابي الى جهاز ذو سلطة يحيل ما يقع تحت يده من تجاوزات الى الجهات القضائية.

 ملفات ضخمة

كان لافتا تصرف ديوان المحاسبة بملفات ضخمة، بدأت بإحالة مسؤولين وشركات في مؤسسة الموانئ الكويتية الى هيئة مكافحة الفساد، وبعدها تقديم بلاغ مباشر الى النيابة العامة بشأن تجاوزات المكتب الصحي الكويتي في ألمانيا، وأخيرا إحالة وزراء الى لجنة محاكمة الوزراء لتأخر بعض جهاتهم في تقديم تقاريرها بشأن استثماراتهم المالية.

لقد رسم الديوان مثلثا (أضلاعه مكافحة الفساد، النيابة العامة ولجنة محاكمة الوزراء) للمساحة التي يمكن له التحرك من خلالها، [inlinetweet]فهل أصاب الديوان بقرار الانتقال من ملعبه الرقابي الإشرافي الى ملعب توجيه الاتهام واتخاذ إجراء؟[/inlinetweet] أم أنه قرع أجراس الضجر من الإهمال النيابي والحكومي لتقاريره وملاحظاته؟ والى أين قد تصل يد الديوان في نهاية المطاف؟

الاهتمام النيابي

من الملاحظ أن [inlinetweet]بلاغات “المحاسبة” للجهات القضائية لم تنل الاهتمام اللازم من أعضاء مجلس الأمة[/inlinetweet]، لا سيما وأن الديوان يمثل الذراع الرقابية لمجلسهم، فخطوة بهذه الحجم يفترض بها أن تحصد دعما واسعا من النواب تعزز من مكانته الرقابية، وتعاونه في مواجهة الفساد الإداري والمالي في أجهزة الدولة، بل على خلاف ذلك لم يكترث أيٌ من النواب لإجراءات الديوان.

ومثلها التقارير السنوية، فهي لا تحظى بالاهتمام البرلماني سوى في مواسم التصعيد النيابي، ولا يختلف الحال كثيرا على الجانب الحكومي الذي لا يتعامل معها بجدية رغم أهمية مواضيعها وارتباطها الوثيق بالمال العام وكشفها لمواطن الخلل الإداري والمالي في الجهاز التنفيذي، فأين تتقاطع أعمال “المحاسبة” مع السلطتين؟

يدرك النواب أن جزءا كبيرا من نجاح مسيرتهم البرلمانية يستند على قدرتهم على المناورات السياسية مع الحكومة لتحقيق مطالبهم، وغالبا ما تكون تقارير “المحاسبة” قواعد رئيسية ينطلق منها الأعضاء، فهناك من أعد استجوابا تقوم محاوره على ملاحظات ومخالفات الديوان، وآخرون حرروا أسئلتهم البرلمانية من صلب تلك التقارير، أي أن تقارير الديوان وما تنتهي اليه تشكل سلاحا فعالا في غالب الأحيان لابتزاز الحكومة ومساومتها.

ويعي كثير من النواب جيدا أن خطوة ديوان المحاسبة في اللجوء مباشرة الى الجهات القضائية، إذا ما توسع بها وفعلها بصورة سليمة، فإنهم أمام خطر فقدان أحد أدواتهم الرئيسية لفتح ثغرات في دفاعات الحكومة تمكنهم من التدخل بأعمالها وفرض أجندتهم عليها، فكل بلاغ يقدمه الديوان يقابله خسارة الأعضاء لقضية من الممكن التكسب منها سياسيا أو انتخابيا أو شخصيا، لذا فإن [inlinetweet]مصلحة النواب لا تتقاطع مع رغبة الديوان في لعب دور رقابي أكثر تأثيرا وذو جانب اجرائي[/inlinetweet].

لاعب جديد

[inlinetweet]ما يقلق هؤلاء النواب اليوم ويزعجهم، وجود لاعب جديد في ملعب الرقابة على الأجهزة الحكومية[/inlinetweet]، لاعب أكثر احترافا وتحررا بما يمتلكه من فرق فنية متعددة الاختصاصات، وصلاحيات واسعة في فتح الملفات الإدارية والمالية في الوزارات والإدارات الحكومية، ولديه مساحة أكبر للتحرك دون اعتبارات سياسية أو عواقب انتخابية.

وعلى جانب آخر، فإن [inlinetweet]العديد من القضايا التي يبحثها “المحاسبة” ويكتشف فسادها تكون مرتبطة ببعض أعضاء مجلس الأمة[/inlinetweet]، بشكل مباشر أو غير مباشر، فعلى سبيل المثال بلاغ الديوان عن المخالفات المالية والإدارية الجسيمة في المكتب الصحي في ألمانيا، وهو ما من شأنه المساس ببعض النواب، وفي هذا الملف تحديدا فأن للديوان تقريرا مفصلا عن العلاج في الخارج كشف فيه وجود أكثر من خمسة آلاف حالة تدخل فيها شخصيات سياسية ونواب.

كما أن [inlinetweet]ارتباط عدد من النواب بأصحاب النفوذ التجاري والاقتصادي، يجعل الديوان خطرا على مصالحهم[/inlinetweet] إذا ما استمر في إحالته الملفات الى الأجهزة القضائية، فما كانت تظهره التقارير من تجاوزات، يطمسه النواب بالسكوت واللامبالاة.

تحركات الحكومة

من جهتها، [inlinetweet]تدرك الحكومة خطورة خطوة “المحاسبة” الجديدة على أجهزتها وشخوصها سواء وزراء أو قياديين[/inlinetweet] أو حتى شخصيات مرتبطة بها، وهذه الخطورة لا تقل عما يرد في التقارير التي تستخدم ضدها سياسيا من بوابة البرلمان، فكم من استجواب ولد من رحم التقارير وآخرها استجواب النائبين محمد المطير وشعيب المويزري لرئيس الوزراء سمو الشيخ جابر المبارك الذي أشار صراحة في محوره الأول الى “تقارير ديوان المحاسبة تدل دلالة واضحة على ما أسلفنا من بيان لما آلت إليه سياسات الحكومة الخاطئة في إدارة الدولة”.

[inlinetweet]فاتخذت الحكومة إجراء لمواجهة محاولات توسع الديوان في بسط رقابته على أجهزتها[/inlinetweet]، خاصة فيما يتعلق بمحاسبة القياديين أو الموظفين، فسارع مجلس الخدمة المدنية الى اصدار قرار تفسيري يسلب من الديوان من صلاحية تشكيل هيئة محاكمات تأديبية للقياديين المتهمين في التجاوزات الإدارية والمالية ويحد من قدرته على التحقيق في تلك الملفات، ومثل تلك الخطوة من شأنها كبح جماح “المحاسبة” في ملاحقة القياديين.

ولايزال النزاع قائما، إذ يرى ديوان المحاسبة أن التحقيق مع القياديين ومحاكمتهم جزءا رئيسيا من صميم عمله ومواد قانون انشائه، وفي المقابل يريد ديوان الخدمة المدنية أن يضع حدا وحدودا يحمي من خلالها قياديين الدولة من ذراع “المحاسبة” الرقابي.

والجدير بالذكر أن أعضاء مجلس الأمة التزموا الحياد في صراع “المحاسبة” و”الخدمة المدنية”، والحياد في هذه الحالة تحديدا دلالة دعم للحكومة لإبعاد شبح الديوان من منافستهم، وحصر الرقابة في عمل النواب.

حيادية ديوان المحاسبة

صحيح أن خطوات “المحاسبة” الأخيرة من شأنها وضع مكانة متقدمة له في المنظومة الرقابية، إلا أنها تأتي في ظروف داخلية معقدة يعاني منها الديوان، [inlinetweet]فرئاسة الجهاز لم تحسم منذ منتصف عام ٢٠١٥ فهناك “فيتو” على نائب الرئيس عادل الصرعاوي[/inlinetweet]، واتهامات له بتشديد الرقابة على الأجهزة الحكومية كرد فعل على عدم تعيينه رئيسا بالإصالة، وسط معلومات صحفية شبه مؤكدة بتعيين رئيس جديد من خارج الجهاز.

الأمر الآخر، فإن توالي خسارة ديوان المحاسبة البلاغات المقدمة منه للأجهزة القضائية – في حال حفظها أو براءة المتهمين فيها – ستتسبب في هز الثقة النيابية والحكومية والشعبية في تقاريره وتحقيقاته، كما سيفقده حياديته مع الجهات التي يتعامل معها إذ سيجعله خصما في القضاء وحكما على أعمالها، ويجعله عرضه أكثر للانتقاد والتشكيك في أعماله، فسابقة التقديم قد تلحقها سابقة الخطأ في التحقيق والاتهام وخسارة موقع الحياد، فهل ديوان المحاسبة مدرك لخطورة تلك النتيجة؟ وكيف سيتعامل معها؟

علاوة على ما سبق، فإن الأنظار ستتوجه الى ديوان المحاسبة، وآلية تعامله مع كافة الوزارات والجهات الحكومية ومخالفاتها، فالمطلع على تقارير التحقيق المكلف بها من قبل السلطتين، والمراجعة السنوية لميزانيات الأجهزة الحكومية، يعلم جيدا أن كثيرا من تلك [inlinetweet]التقارير مشاريع بلاغات للأجهزة القضائية، فهل سيتعامل الديوان وفق مسطرة واحدة مع كل ما يقع تحت يده؟[/inlinetweet] أم الانتقائية في الملفات ستسيطر على بلاغاته؟ فهل كل مخالفة مالية ستحال الى النيابة العامة أو مكافحة الفساد؟ أم أن هناك خطوط حمراء لا يمكن له تجاوزها، وأسماء لا يجب عليه التعرض لها؟

مسؤولية الديوان

يقع اليوم على كاهل ديوان المحاسبة مسؤولية بيان الآلية المتبعة في اجراءات تقديمه الدعاوى القضائية ليعزز ثقة المواطنين فيه، ويبعد عنه اتهامات الانتقائية في عمله وبالتوازي مع ذلك الحفاظ على حياديته، في المقابل فإن [inlinetweet]التعاطي النيابي مع التقارير يجب أن يكون أكثر جدية ونابع من الإحساس بالمسؤولية تجاه المال العام[/inlinetweet]، أما [inlinetweet]الحكومة فهي الجهة التي تتحمل المسؤولية الأكبر لتصحيح أجهزتها الإدارية والمالية[/inlinetweet] لا سيما بعد رعاية رئيس الوزراء سمو الشيخ جابر المبارك الملتقى الحكومي الأول تحت عنوان “تعزيز النزاهة”.

نسخة PDF: ديوان المحاسبة .. واقع جديد فرضه الإهمال النيابي والتقاعس الحكومي