دارك بولتكس للاستشارات السياسية > شؤون برلمانية > جبل الفساد النيابي: ما يخفيه القاع أخطر وأكبر

جبل الفساد النيابي: ما يخفيه القاع أخطر وأكبر

تمثل قضية “الايداعات المليونية” واحدة من أشهر حوادث الفساد النيابي في الكويت، ورغم أن القضاء لم يدن أيا من المتهمين فيها بسبب القصور التشريعي، إلا أنها لا تزال شاهدا على ما آلت اليه الحياة الديمقراطية بعد أكثر من خمسين عاما مضت من عمر واحدة من أقدم الدساتير في المنطقة.

 هل انتهى عصر الفساد النيابي بعد تلك الحادثة؟ أم أنها دفعت الحكومة والنواب الى مزيد من الحذر والحيل للثراء الفاحش عبر العمل السياسي وكسب الأصوات؟ وهل القوانين العديدة التي أقرها مجلس الأمة وبتوافق حكومي ساهمت فعلا في مكافحة الفساد التشريعي؟  أم أن هناك قبول بكل ما يجري بين السلطتين؟

إشكالية دائمة

[inlinetweet]الفساد النيابي لم يعد سرا في الحياة البرلمانية الكويتية، أو ظاهرة مؤقتة مرتبطة بفصل تشريعي أو ظرف سياسي ما[/inlinetweet]، بل إشكالية دائمة وممارسة علنية رعتها الحكومات مما تسبب بعرقلة مسيرة الديمقراطية وفقدان الثقة بها وتحميلها سبب تراجع مؤشرات الدولة، فقد [inlinetweet]تنوعت ممارسات الفساد وتطورت أساليبه لتحقيق مكاسب غير مشروعة عبر المنصب السياسي[/inlinetweet]، دون اعتبار لآثاره على مفاصل الدولة ومستقبلها وأخلاقيات المجتمع.

لقد أثبتت الشواهد المتتالية أن [inlinetweet]ملف “الإيداعات المليونية” لم يكن سوى رأس جبل جليد فساد العمل النيابي الكويتي، فالقاع يخفي علاقات سياسية مريبة[/inlinetweet] بين الحكومة وأعضاء مجلس الأمة، وتعاملات مالية وتجارية مشبوهة ومصالح انتخابية تفوق القانون قوة ونفوذا، هناك شبكة علاقات مظلمة وعميقة ما بين أعضاء السلطتين تحتضن كافة أشكال الفساد النيابي والسياسي وتغذيه.

اعتراف صادم

في جلسة ٣٠ أكتوبر ٢٠١٨، وخلال مناقشة الاستجواب المقدم من النائب رياض العدساني الى وزير الدولة لشؤون مجلس الأمة عادل الخرافي، كشف النائب عن مستند لتعيين شقيق نائب مستشارا لدى الوزير، ومن على منصة الرئاسة [inlinetweet]أقر نائب رئيس مجلس الأمة عيسى الكندري بأن المستشار المعين هو شقيقه! لم يكن الاعتراف صادما لأعضاء الحكومة أو النواب[/inlinetweet]، فمثل تلك التعيينات – التي تعتبر من الجرائم التي يعاقب عليها قانون حظر تعارض المصالح – واحدة من التعاملات الدائمة في الشبكة المظلمة.

لقد حُذف هذا الجزء من التسجيل الذي بثته قناة مجلس الأمة على “اليوتيوب” رغم أن النقاش مدون في المضبطة المنشورة على موقع مجلس الأمة، وهذا يدل على يقين الأمانة العامة لمجلس الأمة على جسامة ما حدث من على منصة الرئاسة.

النواب المقاولون

كما أن [inlinetweet]أغلب أعضاء مجلس الأمة يحملون وجهين، الأول نواب يراقبون ويشرعون، والثاني، في الشبكة المظلمة، تجار ومقاولون[/inlinetweet] لديهم شركاتهم أو حصص في شركات. وفي هذا الصدد يكشف النائب عمر الطبطبائي عن بعض تفاصيل الفساد النيابي ولكن دون الإفصاح عن أسماء، فيقول “أحد النواب المدافعين وبشكل مستميت عن الوزير – أي وزير النفط – أتضح انه يملك شركة تأخذ عقود بالباطن مع النفط“، وفي تصريح آخر له “هناك نواب مستميتين على تأهيل شركات في وزارة الأشغال“.

[inlinetweet]اتهامات فساد مباشرة أطلقها النائب الطبطبائي دون أن تحرك ساكنا أيا من السلطات الثلاث في الدولة[/inlinetweet]، الحكومة والبرلمان والقضاء، وحتى المجتمع الذي يفترض أن يكون مراقبا شديدا على السلطات التي تحكمه لم يتفاعل، ولم يتخذ النائب أي إجراءات تحافظ على سلامة المؤسسة التشريعية رغم المعلومات التي يمتلكها والتي استخدمها لدعم استجوابه السابق لوزير النفط ووزير الكهرباء والماء بخيت الرشيدي.

لقد أعلن النائبان سعد الخنفور وماجد المطيري عن وضع ٣٠٠ معدة وآلية تحت تصرف الحكومة لمواجهة تداعيات أزمة الأمطار الأخيرة، وهو ما يطرح تساؤل في أي دولة تعيش ديمقراطية حقيقية، هل للنائبين مناقصات مباشرة أو بالباطن في المشاريع الحكومية حصلا عليها من عضويتهما البرلمانية؟

دائرة الاتهامات

ومن جانب آخر، فإن [inlinetweet]قاع جبل الفساد النيابي حول لجان التحقيق البرلمانية الى وسيلة للابتزاز السياسي والتكسب المالي[/inlinetweet]، لا سيما تلك التي تحقق بالمناقصات الحكومية، لذا من النادر جدا أن تنتهي اللجان من أعمالها وفق المواعيد المحددة لها، وهناك دائما طلبات لتمديد مواعيد نهاية التكليف، وما ينهي مثل تلك اللجان سوى حل البرلمان أو انتهاء مدته الدستورية دون التوصل الى نتائج نهائية، فكلما طال أمد اللجنة زاد الابتزاز النيابي.

ويؤكد ذلك المداخلات النيابية في جلسة مجلس الأمة لمناقشة تداعيات الأمطار الغزيرة، فيقول النائب صالح عاشور عن تقرير لجنة التحقيق في الأمطار الصادر من لجنة المرافق العامة البرلمانية في جلسة مجلس الأمة بتاريخ ١٤ نوفمبر ٢٠١٨ “هناك نوع من المحاباة والمجاملة للشركات المنفذة لتلك المشاريع ومحاولة إيجاد تبريرات لهم“.

ويؤيده في ذلك النائب الحميدي السبيعي فيقول “التقرير مهلهل ولم يحدد الشركات المخالفة أو تجاوزاتها وهذا التقرير حماية للشركات“، أما النائب صلاح خورشيد فكان أكثر صراحة في مداخلته فيقول “بعض الأعضاء لديهم ارتباط في التجاوزات .. الشركة تقول أنها ضامنه الأعضاء“.

 لقد مرت كل تلك الاتهامات مرور الكرام على جميع الوزراء والنواب ولم يجرأ أي منهم على فتح الملف، وحتى ما ذكر في الجلسة انتهى في حينه، ومن وجه الاتهامات وكشف الحقائق لم يتخذ أي إجراء لاحق الأمر الذي يضعه في دائرة الشبهات أيضا، ومن وجه له الادعاء قدم دفاعا خجولا لم يفند فيه الاتهامات ولا يزال يمارس سلطاته البرلمانية.

في الشبكة المظلمة، فإن [inlinetweet]كل الأدوات الدستورية هي وسائل لجني المال السياسي حتى أداة الأسئلة البرلمانية[/inlinetweet]، فبمتابعة كثير مما يوجه منها يلاحظ أنها تنشط لدى نواب عليهم الكثير من علامات الاستفهام، وتتمركز أسئلتهم حول عقود ومناقصات وإجراءاتها، وإن كانت تلك الأسئلة تغلف بغلاف الحفاظ على المال العام إلا أنها عادة ما تعتبر رسالة من تاجر الى منافس له ومحاولة لتعطيل مناقصة عبر التشكيك بها، وفي أحيان أخرى تكون للنائب صلة مباشرة في تلك المناقصات فيستخدم أدواته الدستورية لابتزاز الوزراء لترسيتها أو الحصول على معلومات وتفاصيل مبكرة للاستفادة منها.

انهيار الديمقراطية

من الطبيعي، في ظل تلك الشواهد والحقائق، ان [inlinetweet]تتعرض الديمقراطية الكويتية الى انهيار في قيمها وتحيد عن أهدافها، فالممارسة الفعلية لا تتوافق مع روح الدستور[/inlinetweet] وتتعارض مع مفاهيم الديمقراطية السليمة، فالجريمة شارك بها الكل، حكومة ونواب ومواطنون، وإن كان [inlinetweet]الجزء الأكبر تتحمله السلطة التنفيذية كونها الجهة المانحة للمال السياسي المتعددة أشكاله[/inlinetweet] والمتعاقد معها، فإن [inlinetweet]أعضاء مجلس الأمة يتحملون في المرتبة الثانية المسؤولية بانعدام قيم الأمانة والحفاظ على المال العام[/inlinetweet]، وسيطرت فكرة الثراء السريع على سلوكهم بصورة غير مسبوقة.

أما المواطنون، فالأغلب منهم مدرك لحقيقة الأحداث التي تدور ما بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، فهم جزء من هذا القاع الذي يقف عليه الفساد النيابي، ويأتي قبولهم بها من منطلق استفادتهم من النواب لمعاملة علاج في الخارج أو توظيف في جهة ما، أو مصلحة خاصة تجيز لهم القبول بكل ما يدمر المصلحة العامة.

لقد [inlinetweet]استفادت الديمقراطية الكويتية كثيرا من “الايداعات المليونية” ولكن في الاتجاه المعاكس[/inlinetweet]، باتجاه ابتكار أساليب جديدة للفساد النيابي، وجعل شبكة العلاقات العميقة بين أغلبية أعضاء السلطتين أكثر حرصا وحذرا في تعاملاتها.

ويبقى السؤال الأهم، [inlinetweet]أين دور السلطة القضائية في الدولة في مواجهة ذلك؟ لماذا لا تتحرك النيابية العامة انطلاقا من مسؤولياتها الوطنية؟[/inlinetweet] ولماذا تقف هيئة مكافحة الفساد مكتوفة الأيدي أمام كل ما يقال عن النواب وعلاقتهم التجارية والمالية مع الحكومة؟ وهل تحققت نبوءة تقرير سابق لـ DarkPolitics بأن قانون تعارض المصالح ولد ميتا؟

نسخة PDF: جبل الفساد النيابي: ما يخفيه القاع أخطر وأكبر