تفتقد الحكومات الكويتية – لا سيما الأخيرة – نهج العمل المشترك بين الوزراء، اذ يغلب الطابع الفردي في أداء الوزير على مفهوم العمل الجماعي المتكامل، وهو ما يفسر تفكك العمل الحكومي بشكل عام وعدم ارتباط قراراته ونتائجها بعضها ببعض، وتناقضها في كثير من الحالات، فالوزير يبحث عن انجاز يرتبط بشخصه لا بالحكومة التي يعمل في اطارها ويمثلها، ويسعى للمحافظة على مقعده وإطالة أمد بقائه بشتى الوسائل حتى وان كانت على حساب زملائه الوزراء ومهنية العمل بالجهات الحكومية.
فوضى حكومية
هذه الصورة العامة لأداء الوزراء، والوضع داخل “البيت الحكومي”، خلقت فوضى في الأجهزة الحكومية وعزلت بعضها عن البعض، وقطعت قنوات التفاهم فيما بينهم حتى صار تضارب القرارات وتضادها سمة العمل الحكومي، ولم تتوقف هذه الحالة عند حدود مجلس الوزراء، بل انتقلت الى أروقة مجلس الأمة، اذ باتت أجوبة كثير من الوزراء على الأسئلة البرلمانية عبارة عن رمي كرة المسؤولية والإخفاق على زملائهم الآخرين من الوزراء، اما تلميحا أو تصريحا.
عدوى البحث عن أي انجاز – حقيقي كان أو وهمي يصنعه الاعلام – انتقلت الى كافة السلطات، الحكومة بوزرائها، مجلس الأمة بنوابه والمجلس البلدي بأعضائه، فالجميع يريد خطف الأضواء وحصد الإطراء، ولعل ملف أرض جنوب القيروان نموذج يستحق التوقف عنده.
لطالما كانت القضية الاسكانية من القضايا المحورية والشعبوية، وأي خطوة تتخذ فيها يكون لها صدى عال بين المواطنين، لذا فهي من ساحات الصراع الدائمة بين الأطراف ذات الصلة سواء في الحكومة أو البرلمان أو الأجهزة الأخرى، صراع ليس لوضع حلول مستدامة واقعية قابلة للتنفيذ، بقدر ما هو نزاع وسباق على انجاز وهمي أو شكلي لتثبيت مقاعد.
صراع الفارس والبلدي
في جلسة ٢٩ نوفمبر ٢٠٢١ أقر المجلس البلدي اقتراحا مقدما من مجموعة من الأعضاء لتخصيص أرض جنوب القيروان لصالح المؤسسة العامة للرعاية السكنية، بالرغم من يقين وعلم الأعضاء أن المساحة لن تحل سوى ٢ بالمئة من الأزمة الاسكانية، فالأصل في المقترح هو البحث عن انجاز يسجل لهم. رُفع محضر الجلسة الى وزير الدولة لشؤون البلدية وزير الدولة لشؤون الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات د. رنا الفارس، وبحسب القانون، فهي تملك سلطة الرفض أو المصادقة لتدخل قرارات الجلسة حيز التنفيذ.
الصراع بين الفارس و”البلدي” – سبق وأن طالب الأعضاء باستقالتها على خلفية كارثة الأمطار – دفع الوزيرة الى استخدام سلطتها الحكومية كرئيس للجنة الخدمات الوزارية، لاختطاف مشروع تخصيص “جنوب القيروان” لصالحها، اذ ناقشت المسألة في اللجنة التي تترأسها مع وزير الشؤون الاجتماعية والتنمية المجتمعية ووزير الدولة لشؤون الإسكان والتطوير العمراني مبارك العرو كمقترح حكومي ورفعته لمجلس الوزراء، متجاهلة بذلك قرار “البلدي” الذي ينتظر مصادقتها بالاعتماد أو بالرفض. صدر بيان مجلس الوزراء بتاريخ ١٠ يناير ٢٠٢٢ يكلف فيه بلدية الكويت بالتنسيق مع الجهات الحكومية لاتخاذ كافة الإجراءات اللازمة نحو تخصيص أرض “جنوب القيروان” للرعاية السكنية.
صرح الوزيران الفارس والعرو بموافقة مجلس الوزراء على التخصيص بشعور المنتصرين للقضية الاسكانية، وبادلهم التصريح مجموعة من النواب بالشكر والتقدير على الدور الكبير الذي قاما به من أجل المواطنين، ويبدو أن هناك تنسيق مسبق بين الطرفين. وفي الجهة الأخرى، اعترض أعضاء المجلس البلدي على البيان الحكومي وإجراءات الوزيرة ومجلس الوزراء، وشددوا على أن المقترح انبثق من مجلسهم ووافقوا عليه.
الضغط الشعبي
تسابق الكل لحصد الاعجاب الشعبي ضمن اطار القضية الاسكانية، ولعل الموقف الحكومي هو الأكثر استغرابا اذ ضرب بعرض الحائط الحدود التي تفصل بينه وبين المؤسسات الأخرى، والاختصاصات المقررة له وللآخرين، ولم يضع اعتبارا لخطورة الإجراءات التي اتخذها وأفصح عنها، اذ فتح بابا سياسيا ونيابيا عليه لاتخاذ قرارات مشابهة لأراض أخرى، ووضع نفسه تحت الضغط الشعبي لتحرير مزيد من المساحات داخل المناطق الحضرية والتي لن تغطي في مجملها اكثر من عشرة بالمئة من اجمالي الطلبات السكنية، بينما برنامج عمل الحكومة يوجه الى بناء المدن.
بحمد الله وفضله
— رنا عبدالله الفارس (@Rana_AlFares) January 10, 2022
صدر اليوم قرار مجلس الوزراء
بشأن تخصيص
منطقة "جنوب القيروان"
لصالح المؤسسة العامة للرعاية السكنية
ونسأل الله أن يوفقنا
لتحرير المزيد من الأراضي
للمساهمة في حل القضية الإسكانية
شكراً لسمو
رئيس مجلس الوزراء
واخواني معالي الوزراء
على اهتمامهم بهذا الملف
محاولة الوزيرة الفارس اختطاف قرار “البلدي”، وخضوع مجلس الوزراء الى إجراءات غير قانونية ومنطقية وتجاهله للحقائق، دفع مجلس الأمة الى تكليف اللجنة الاسكانية البرلمانية بدراسة تحويل منتزه أبو حليفة الى المؤسسة العامة للرعاية السكنية، فهو الآخر يبحث عن انجاز سريع ليقف على مسافة واحدة مع الحكومة والمجلس البلدي في القضية الاسكانية التي باتت بابا للمساومات السياسية.
الاستخدام الاعلامي
المفارقة هنا أنه بعد أيام قليلة من تكليف مجلس الوزراء الجهات الحكومية بتخصيص الأرض، صادقت الوزيرة الفارس بالموافقة على قرار المجلس البلدي بتخصيص “جنوب القيروان”، ونسفت كل الإجراءات الحكومية بعد ان استخدمت واستهلكت إعلاميا، فلم يعد لتكليف مجلس الوزراء قيمة تنفيذية اذ ان الجهات الحكومية اليوم ملزمة باتخاذ إجراءات تسليم الأرض الى “السكنية” بناء على موافقة “البلدي” وليس الحكومة!
النموذج السابق لن يكون الحلقة الأخيرة من استخدام مجلس الوزراء وصلاحياته كأداة بيد الوزراء للتكسب، ولا نهاية لمحاولات مجلسي الأمة والبلدي لفرض حلول شكلية ومؤقته بهدف كسب التأييد العام، فهناك انفصال عن الواقع والحقائق، وتعلق ببيع الوهم.
نسخة PDF: جنوب القيروان .. نموذج لاستخدام مجلس الوزراء أداة لتكسب الوزراء