حدد الدستور وقانون توارث الإمارة آليات انتقال الحكم في الكويت، من تنصيب رئيس الدولة الى تزكية ولي العهد، إلا أن النصوص – منذ بداية العهد الدستوري – لم تمنع رحى الصراعات من الدوران داخل الأسرة الحاكمة، لتلعب أدوارا مؤثرة في تغيير مسارات الطريق الى الإمارة، فرسمت بدايات أمراء وكتبت نهايات شيوخ.
أزمات الحكم
ومنذ بداية العهد الدستوري، [inlinetweet]شهدت الكويت في أكثر من محطة أزمة حكم رغم سلاسة انتقاله ظاهريا[/inlinetweet]، وتذكر الوثائق البريطانية باستفاضة الصراع بين المغفور لهما الشيخين جابر الأحمد وجابر العلي على منصب ولاية العهد الذي حسم للأول، واستمر هذا الصراع إلى أن تولي الشيخ جابر الأحمد مقاليد الإمارة وتزكية المغفور له الشيخ سعد العبدالله وليا للعهد ليقطع الطريق بذلك أمام الشيخ جابر العلي الذي اعتزل العمل السياسي.
[inlinetweet]بعد وفاة الشيخ جابر الأحمد، عاشت الكويت أياما عصيبة بعد فشل الأسرة الحاكمة في احتواء الخلاف على مسند الإمارة بين المغفور لهما الشيخين[/inlinetweet] سعد العبدالله (ولي العهد آنذاك) وصباح الأحمد (رئيس الوزراء آنذاك)، فلجأت الأسرة الى الإجراءات الدستورية الاستثنائية والاستعانة بمجلس الأمة لحسم الأمور، فصوت على عزل الأول وتنصيب الثاني أميرا للبلاد، والذي بدوره زكى شقيقه الشيخ نواف الأحمد وليا للعهد.
[inlinetweet]الهزة التي تعرضت لها الأسرة الحاكمة لم توقف مسلسل الصراعات بين أبنائها تجاه مساعي تثبيت الأقدام على سلم الحكم[/inlinetweet]، بل ارتفعت وتيرتها بشكل غير مسبوق خلال عهد الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد، فسقط العديد منهم سياسيا مما أثر على حظوظهم المستقبلية في السباق الى الحكم. وبعد تولي الشيخ نواف الأحمد مقاليد الإمارة، كان الشيخ مشعل الأحمد الشخصية الوحيدة المرشحة لولاية العهد من حيث تراتبية السن وقوة النفوذ والسلطة داخل الأسرة والبعيدة عن مواقع الصراعات، وهذا ما حدث فعليا.
مستقبل الإمارة
“الاستقرار النسبي” الحالي لم يمنع الحديث عن مستقبل الإمارة في الغرف المغلقة والتجمعات الخاصة، وخرج الحديث الى العلن بتصريح للنائب مهلهل المضف يقول فيه “الشعب الكويتي بالمرحلة القادمة ومن خلال مجلس الامة لن يقبل بولي عهد قادم له ارتباط بشبهات وملفات فساد .. ولن نجامل احد على مصلحة الكويت لأنها مسألة لا تتعلق بأسرة الحكم بل بمصير الدولة”.
الشعب الكويتي بالمرحلة القادمة ومن خلال مجلس الامة لن يقبل بولي عهد قادم له ارتباط بشبهات وملفات فساد .. ولن نجامل احد على مصلحة الكويت لأنها مسألة لا تتعلق بأسرة الحكم بل بمصير الدولة pic.twitter.com/AySpj7kzvt
— مهلهل خالد المضف (@m_almodhaf) November 11, 2021
لطالما كانت تزكية ولي العهد حقا دستوريا لأمير البلاد، بيد أن [inlinetweet]تصريح المضف كسر حاجز الصمت من ابداء النواب رأيهم في مسألة حساسة تتعلق بولاية العهد[/inlinetweet]، وهو ما دعا نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع الشيخ حمد جابر العلي الى سرعة التعليق باعتبار أن “بعض التصريحات عن منصب ولاية العهد وإقحامه في صراعات سياسية وإعلامية بصورة غير مسؤولة، وفيها إساءة لسمو أمير البلاد”، ويبدو أن سرعة الرد وبهذه القوة تهدف الي المحافظة على الحدود ما بين شأن الأسرة الداخلي والعمل البرلماني، وقطع الطريق على النواب الآخرين من ركوب موجة التصريح في ذات الشأن، وهو ما نجح في تحقيقه.
حمد جابر العلي: يسيء لسمو الأمير إقحام «منصب ولاية العهد» في الصراعات
— الراي (@AlraiMediaGroup) November 11, 2021
• دعا إلى النأي بمناصب الحكم والإمارة والالتزام بالدستور وآلياته
• الدستور الكويتي صمام الأمان وأكد نجاحه في تحقيق الاستقرار في أكثر من محطة تاريخية https://t.co/kNrK7IHMas
[inlinetweet]المواجهة بين الوزير الشيخ والنائب المواطن فتحت نوافذ على منطقة مجهولة داخل الأسرة الحاكمة[/inlinetweet]، فدستوريا، لأمير البلاد سلطة تزكية من يراه مناسبا لولاية العهد وفق المادة ٤ من الدستور، ولأعضاء مجلس الأمة الحق بالموافقة على الترشيح أو رفضه وفق النص ذاته، ولكن تبقى هناك منطقة رمادية تتمثل في فترة بحث الأمير عن شخصية ولي العهد والتي تصل الى سنة على الأكثر، فهل يحق للنواب والسياسيين والشعب إبداء الرأي والمشورة لسموه؟ وهل تكون المناصحة في السر أو بالعلن؟ للإجابة على هذا التساؤل لا بد من قراءة النصوص الدستورية، والنتيجة بلا شك ليست مطلقة، إذ أن الفهم الدستوري مختلف بين الخبراء الدستوريين، ولكل منهم رأيه وزاويته في التفسير والتحليل.
النصوص الدستورية
بمقارنة النصوص الدستورية المتمثلة بتزكية ولي العهد وتعيين رئيس مجلس الوزراء – وهما من اختصاصات الأمير المباشرة – فقد الزمت المادة ٥٦ سمو الأمير على اجراء “المشاورات التقليدية” قبل تعيين رئيس مجلس الوزراء، وأوضحت المذكرة التفسيرية بأن المعنيين بالمشاورات هم “رئيس مجلس الأمة، ورؤساء الجماعات السياسية، ورؤساء الوزارات السابقين الذين يرى رئيس الدولة من المفيد ان يستطلع رأيهم، ومن إليهم من اصحاب الرأي السياسي”.
أما على صعيد تسمية ولاية العهد، فإن الزامية «المشاورات التقليدية» لا وجود لها نصا أو تلميحا، وتركت المادة ٤ من الدستور لرئيس الدولة حرية تزكية من يراه أهلا للمنصب بشكل مطلق، في المقابل أعطت ذات المادة لأعضاء مجلس الأمة حق الرقابة على الاسم المرشح من قبل أمير الدولة، بالموافقة أو الرفض أو الاختيار – من ثلاثة على الأقل – حين تعرض تزكية الأمير على مجلس الأمة.
إبداء المشورة
لذا، فللإجابة على التساؤل السابق، هل يحق إبداء الرأي والمشورة لسمو الأمير؟، يتضح أن [inlinetweet]أعضاء مجلس الأمة وأصحاب الرأي السياسي لا يملكون “دستوريا” حق توجيه أمير البلاد أو وضع ضوابط له في تعيين ولي العهد[/inlinetweet] أسوة بمنصب رئاسة الحكومة، وينحصر دورهم في التعقيب – إن أرادوا ذلك – على التزكية الأميرية في جلسة المبايعة، ويملكون تثبيت موقفهم عبر التصويت بالموافقة أو الرفض أو الامتناع، وهذا ما ينقل المسألة من النافذة الدستورية الى السياسية والاجتماعية.
لم يحدث في تاريخ الكويت أن صوت نائب بالامتناع أو الرفض على تزكية الأمير لولي عهده، أو اعترض قولا في قاعة عبدالله السالم على مرشح الأمير، فالحرج السياسي والاجتماعي يتجاوز سلطة الدستور، ويصادر حق النائب في ذلك رغم أنه عمل مشروع، و[inlinetweet]عضو مجلس الأمة يدرك أن خروجه عن الاجماع يعني خلق خصومة مع ولي العهد الجديد والأمير القادم[/inlinetweet]، لذا فلا خيار أمامه سوى رفع اليد بالموافقة حتى وإن كان تصويته دون قناعه، أي أن الجانب المصلحي للنائب سينتصر على الجانب المبدئي إن كان لديه تحفظات على شخصية ولي العهد.
مسؤولية الأسرة
ولكن هل ستشهد الحياة السياسية في الكويت انقلابا على العرف السائد والواقع السياسي والاجتماعي؟ حيوية العملية السياسية والتحولات التي تمر بها، وارتفاع سقف الخطاب وحدة المواقف النيابية، والصراع داخل أسرة الحكم بكل الأدوات المتاحة، كل ذلك مؤشرات على أن الانقلاب محتمل وخيار قائم، وهي مؤشرات لا تختلف عما مرت به رئاسة الوزراء من أحداث قبل أن يتحول المنصب الى ساحة معارك.
تصريح النائب المضف قد يكون الشرارة التي سارع نائب رئيس مجلس الوزراء الشيخ حمد جابر العلي الى محاصرتها، ولكن لا يعني ذلك السيطرة على مجريات القادم من الأحداث، [inlinetweet]فتعامل أسرة الحكم مع تصريح المضف بصورة عابرة قد تدفع ثمنه مستقبلا بفتح باب النقاش حول ولاية العهد[/inlinetweet] على مصراعيه، وتقحم الصراعات والتدخلات السياسية كما ذكر الجابر بتصريحه، وهو من عاش صراع والده مع الشيخ جابر الأحمد، وهو من يعلم الأدوات التي استخدمت في تلك الأزمة، وكيف انتهت والأضرار التي ترتبت عليها.
في ظل الواقع السياسي الجديد والمتغيرات التي طرأت على طبقته، [inlinetweet]لا تملك الأسرة الحاكمة الاستمرار بالمطالبة بالنأي عن مناصب الحكم من الصراعات والتدخلات والحديث عنها[/inlinetweet]، بالمخالفة للواقع الذي يعيشه المشهد النيابي، فقد سبق لها وأن خسرت معركة منع التأثير والتدخل في تسمية رئيس مجلس الوزراء، وفشلت في توفير الحماية للمنصب، ولا يبدو أن محاولاتها ستنجح في حماية منصب ولاية العهد مستقبلا اذا استمرت بالرهان على عاملي الوقت والعرف السائد، ولكنها تملك إعادة ترتيب أوراقها تمهيدا لاستيعاب التغيير والتعامل معه، ولعل أولى الخطوات المطلوبة تبدأ من داخل الأسرة نفسها.
نسخة PDF: مستقبل منصب ولاية العهد .. قبل أن يسبق السيف العذل