شكل مشروع قانون الدين العام منعطفا في الحياة السياسية لوزير المالية السيد براك الشيتان، فالأضواء التي كان بعيدا عنها، والمماحكات البرلمانية التي لم يكن طرفا بها، فرض – أي مشروع القانون – عليه إعادة رسم مساره في العمل الحكومي والتحالفات النيابية لبناء مصدات تحميه من الصراعات السياسية واستهدافه، فمجرد تقديمه للبرلمان الى تكونت عاصفة من الرفض النيابي بلغت أشدها مع تصريح رئيس مجلس الأمة مرزوق الغانم المعارض له.
أدى السيد الشيتان اليمين الدستورية أمام سمو أمير البلاد في ١٦ فبراير الماضي، وأمام مجلس الأمة في ١٨ من الشهر ذاته مكملا بذلك الشكل الدستوري لأداء مهامه التنفيذية والتشريعية، أي أن عمره الوزاري لم يتعدى ستة أشهر، ولكنه حفل بأحداث أدت في نهاية المطاف الى تقديم النائب رياض العدساني استجوابا له مكون من خمسة محاور.
قواعد العمل السياسي
و[inlinetweet]ينطلق وزير المالية، في مواجهة الاستجواب، من أصلب قاعدتين في العمل السياسي الكويتي، الأيدلوجية الإسلامية والانتماء القبلي[/inlinetweet]، فهما يشكلان ما نسبته ٧٥ بالمئة من التمثيل النيابي في مجلس الأمة، لذا فإن اسقاط أي وزير قبلي يكاد يكون مستحيلا عبر أداة الاستجواب، وفي ذلك شواهد عديدة، فقد تجاوز الوزراء نايف الحجرف، محمد الجبري وبخيت الرشيدي الاستجوابات المقدمة لهم، ولا شك أن مصير استجواب الشيتان – والذي يضاف له الإنتماء الفكري الديني – سينتهي الى ما انتهت له الاستجوابات السابقة.
لقدت كانت [inlinetweet]منصة الاستجواب من ضمن قائمة الاحتمالات التي حملها بيده السيد الشيتان[/inlinetweet] لا سيما مع تهديدات النائب العدساني المتكررة له، ويده الثانية كانت تبحث عن وسائل لبناء مصدات تقيه من أي مفاجآت سياسية، وتضمن له بقاءً أطول في الحكومة الحالية على الأقل، وفرصا للاستمرار في التشكيل القادم، وفي أسوء الأحوال، تشكل له رصيدا سياسيا قد يعيده الى لعبة الانتخابات النيابية إن قرر ذلك.
ملامح المسار
بدأت ملامح مسار جديد، وخيارات السيد الشيتان تتضح شيئا فشيئا مع تسريبه خبرا عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن إحالته صفقة شراء صندوق استثماري تابع للمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية أسهما في شركة طيران الجزيرة – نفذت في ١٩ مارس الماضي – الى هيئة مكافحة الفساد. لم يصدر حينها بيانا رسميا من وزير المالية، والذي يشغل منصب رئيس مجلس إدارة “التأمينات”، ولم يعفِ بيان المؤسسة التوضيحي بشأن الصفقة من إحالة الملف الى “نزاهة” وذلك بتاريخ ١١ أبريل الماضي، أي بعد شهر تقريبا من العملية والبيان الاستيضاحي، وتوالي الأحداث بين أن الخافي قرار لبداية معركة، وخطوة أولى في التحول والانتقال الى معسكر يري فيه وزير المالية حماية أكبر له.
بدأت خطوات وزير المالية تتسارع وتتضح اتجاهاتها أكثر، فبعد إعلان بنك التمويل الكويتي “بيتك” وبنك الأهلي المتحد في ١٢ أبريل الماضي تأجيل تنفيذ قرار الإندماج الى نهاية العام الحالي، بناء على ظروف جائحة فيروس كورونا المستجد، أصدر السيد الشيتان بيانا في ٢٢ من الشهر ذاته أعلن فيه توجيه الهيئة العامة للاستثمار والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية لإعادة دراسة الجدوى من الصفقة بسبب تداعيات الجائحة.
التصنيف الشعبي
بيان السيد الشيتان، اللاحق لبياني “بيتك” و”الأهلي”، ودخوله طرفا في عملية تأجلت لمدة ستة أشهر، وضعته حيثما أراد أن يُصنف سياسيا وإعلاميا وشعبيا، في المعسكر المضاد لرئيس مجلس الأمة السيد مرزوق الغانم، وهذا ما كان يصبو اليه وزير المالية. ورسخ ذلك أكثر إعلانه توجيه الهيئة العامة للاستثمار بالتنسيق مع الجهات الحكومية لعكس نسبة ملكية الحكومة في مجلس إدارة “بيتك”، بمعنى آخر، العمل على إزاحة المجلس الحالي الذي يضم بالإضافة الى السيد حمد المرزوق رئيس مجلس الإدارة، السيد فهد الغانم شقيق رئيس مجلس الأمة.
ومع استكمال بناء حائط الصد السياسي، إلا أن [inlinetweet]وزير المالية، ويؤيده في ذلك نواب وآخرون، يرون أن الخطوات المتخذة لها جوانب اصلاحية وفي الوقت ذاته “جريئة”[/inlinetweet] فيمن استهدفت من شخصيات وشركات قلما يتم التعرض لها ولمصالحها بهذه الصورة المباشرة، وهو ما خلق انقسام في الساحة ما بين مؤيد ومعارض، سياسيا واقتصاديا.
نما إلى علمي أن هناك مخطط لتقديم عدة استجوابات من بعض أدوات الفاسدين.. لخلق مبررات بإعادة تشكيل الوزارة.. والهدف: إبعاد وزير المالية الشيتان ..الذي شاهد الشعب الكويتي سرعته بتتبع ملفات الفساد.. وقوته باتخاذ القرار ودقته.. فكان اختيارا موفق.. فعلى رئيس الوزراء التنبه لهذا المخطط.
— محمد براك المطير (@MBALMUTAIR) June 1, 2020
لقد [inlinetweet]نجح الشيتان سياسيا وإعلاميا وشعبيا في مساره عبر ثلاث محطات رئيسية[/inlinetweet]، صفقة طيران الجزيرة، صفقة استحواذ “بيتك” على “الأهلي المتحد”، وأخيرا زيادة التمثيل الحكومي في “بيتك”، مؤسسا ذلك على قاعدتي الانتماء الفكري الديني والقبلي، بيد أن الأثر الاقتصادي سيبقى مجهول العواقب والمستقبل، لا سيما حين تسيطر السياسة على القرار الاقتصادي ما يفتح أبواب استفهامات عديدة.
الإجراءات الاقتصادية
في تصريح لصحيفة السياسة الكويتية، يقول السيد الشيتان أن إحالة صفقة طيران الجزيرة الى نزاهة ” جاء من باب التأكد من سلامة الصفقة والبحث في مدى فعاليتها وجدواها الاقتصادية والمالية مثل كل الاستثمارات في المؤسسة والحفاظ على اموال المتقاعدين وتوظيفها على الوجه الامثل الذي يحميها من الخسائر”، فهل المسار الذي سلكه وزير المالية للتحقق من الصفقة سليم؟ لقد حدد قانون انشاء هيئة مكافحة الفساد الحالات التي تنظرها والبلاغات التي تتلقاها، وليس من ضمن ذلك اجراء دراسة جدوى اقتصادية والبحث في مدى فاعليتها، هذا من جانب، ومن جانب آخر لماذا اختص الشيتان هذه الصفقة فقط؟ وهل سيعمم المعيار على كل صفقة “التأمينات” وهيئة الاستثمار؟
أما قرار إعادة دراسة جدوى استحواذ “بيتك” على “الأهلي المتحد” اللاحق لإعلان البنكين تأجيلها الى نهاية العام، لم يبين الشيتان إن صدر منه كوزير مالية أو كرئيس مجلسي إدارة “التأمينات” و”الاستثمارات”، فإن كان الأول فهو تدخل ينسف مبدأ استقلالية المؤسستين ويضعهما تحت رحمة القرار السياسي، وإن كان كرئيس لهما فهذا يتعارض مع مفاهيم وقواعد الحوكمة التي تستوجب عرض الأمر على مجلس الإدارة واتخاذ القرار بالتصويت بالقبول أو الرفض، والاستعجال بهذه الصورة يفقد القطاع الاقتصادي ثقة المستثمر المحلي والخارجي فيه.
وأخيرا، يأتي طلب زيادة التمثيل الحكومي في مجلس إدارة “بيتك”، ما يعني أن هناك عدم رضا على إدارة المجلس الحالي الأمر الذي يتطلب معه تغييره والسيطرة عليه لتنفيذ استراتيجية جديدة للمؤسسة المصرفية، إلا أن البنك يحقق أرباحا سنوية ومجزية للمال العام، فإن كان المستجد هنا عملية الاستحواذ فقد وافق عليها الشيتان ذاته حين كان عضوا في مجلس الإدارة ممثلا لهيئة القصر، وإن كان رأيه تغير فإن التصويت الحكومي – دون المساس بتركيبة المجلس الحالي – كفيل بإسقاطه. وفي جميع الأحوال فأن التدخل بهذا الشكل في إدارة شركات القطاع الخاص لا يبعث برسائل اطمئنان للمستثمرين، خاصة وأن الحكومة اتجهت الى مشاريع الشراكة بين القطاعين وطرح الشركات المساهمة.
افتعال الخصومة
[inlinetweet]استراتيجية افتعال الخصومة مع أي طرف، ممارسة مشروعة في الحياة السياسية، وناجحة[/inlinetweet] في كثير من الأحيان، وهو ما جعل الوزير الشيتان يتطرف في قراراته وتوجيهاته السابقة، ويحصرها في مجموعة “بيتك” و”طيران الجزيرة”، وإن كان ما سبق حقق له الأمان السياسي والشعبي إلا أنه يضعه تحت مجهر المسائلة من البوابة الاقتصادية.
وعلى صعيد آخر، لم يغفل السيد الشيتان الجانب الشعبوي في بعض قراراته، فسار بخط مواز بذلك، إذ فاجأ زميله وزير النفط د. خالد الفاضل بطلب توريد الأرباح المحتجزة لدى مؤسسة البترول الكويتية المقدرة بـ ٧ مليار دينار الى خزينة الدولة، بما يتعارض مع خطة مسبقة متفق عليها حكوميا وبرلمانيا لترحيل المبلغ الى خزانة الدولة. ويعلم الشيتان جيدا أن هذا الطلب لن يتحقق لاعتبارات عديدة أهمها صعوبة تسييل الأصول وتقاطعه مع توجه المؤسسة بالاستفادة من عوائد المبلغ في تنفيذ مشاريعها، فكان الانتصار الشعبوي أهم من امكانيه تنفيذه.
أعلنت وزارة المالية أن معالي وزير المالية براك الشيتان واستنادا على القوانين الصادرة بشأن اعتماد الحسابات الختامية، قد خاطب وزير النفط ورئيس مجلس إدارة مؤسسة البترول الكويتية لتوريد مبلغ الأرباح المحتجزة لدى المؤسسة التي تقارب 7 مليار د.ك. للخزانة العامة للدولة (الاحتياطي العام). pic.twitter.com/ce9IofZ8mc
— وزارة المالية-الكويت (@MOFKW) April 30, 2020
المسار الإعلامي الشعبوي تكرر مجددا ما بين وزير المالية وشركة الخطوط الجوية الكويتية، إذ طلب تزويده بفواتير احتفالية مرور ٦٥ عاما على تأسيس الخطوط بعد استقالة الرئيس بعد ما أثير عن شبهات فساد طالتها، وهو ما كان محل اهتمام واسع في مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن الحقيقة تتمثل في أن الواقعة هذه كانت محل تحقيق قبل تولي الشيتان منصبه، وقد شارف على التحقيق على الانتهاء.
أجوبة مقنعة
في بداية توزيره، أثيرت قضية مرفوعة ضد السيد براك الشيتان أتهم بها بتزوير مستندات رسمية حين كان مديرا عاما لهيئة شؤون القصر، وإذ لا تزال القضية منظورة أمام الأجهزة القضائية، وما بين البراءة والإدانة احتمالات متساوية، فأن مثل هذه الأسلحة السياسية من الأدوات التي تستخدم بالصراعات، وهو سلوك مشابه اتبعه وزير المالية في صراعه، أسلحة مشروعة وغير مشروعة، بما فيها أدوات المرشح لانتخابات مجلس الأمة، لبناء حائط الصد السياسي والحفاظ على موقعه، ولكن الى أي مدى سيصمد هذا الحائط؟ لا سيما وأن كثيرا من القرارات غير مؤسس على أرضية صلبة، وبعضها الآخر لا يعدو كونه شعبوي غير ذي جدوى، وهل سيكون لدى الشيتان الأجوبة المقنعة لأسباب قراراته؟
نسخة PDF: براك الشيتان .. مصدات سياسية تهز القواعد الاقتصادية