دارك بولتكس للاستشارات السياسية > شؤون برلمانية > العمل السياسي في الكويت: وهن السلطتين وسطوة الجماهير

العمل السياسي في الكويت: وهن السلطتين وسطوة الجماهير

تعيش الحياة السياسية في الكويت واحدة من أسوء مراحلها التاريخية، فكثير من العوامل التي مرت بها في السنوات الأخيرة دفعت العملية الديمقراطية الى مزيد من التراجع، ومزيد من الانحراف في التشريع، فتعزز العمل الفردي داخل مجلس الأمة وخارجه، وغابت الرقابة الفاعلة على الحكومة. لقد أرادت السلطة خلق هذا الفراغ لحماية مجلس الوزراء، ولكن الأخير فشل في ملئه بمشروع دولة.

 سطوة القرار

ففي وقت نجحت السلطة في كبح جماح مجلس الأمة تشريعيا ورقابيا، وفي حين أرادت الحكومة أن تكون لاعبا منفردا على الساحة، فإن الضعف الذي رسم ملامح البرلمان نقل سطوة القرار الى المجاميع الشعبية والعائلية والقبلية والطائفية ، والتي تحولت الى القوى الأكبر أثرا في توجيه النواب وصنع القرار وفرضه على السلطة والحكومة، ساهم في ذلك تملك الجماهير منصات إعلامية عبر شبكات التواصل الاجتماعي تحولت الى ند للإعلام التقليدي المسيطر عليه من قبل المجاميع التجارية ، وتفوقت عليه أحيانا كثيرة في الانتشار وتوجيه الرأي.

في كتابه، “سيكولوجية الجماهير”، يرى العالم الفرنسي جوستاف لوبون أن “المحرضات القادرة على تهييج الجماهير متنوعة ومتعددة .. فنجدها تنتقل في لحظة واحدة من مرحلة الضراوة الأكثر دموية الى مرحلة البطولة المطلقة. أن الجمهور يمكنه بسهولة أن يصبح جلادا، ولكن يمكنه بنفس السهولة أن يصبح ضحية وشهيدا .. فهي تستطيع أن تعيش كل أنواع العواطف وتنتقل من النقيض الى النقيض بسرعة البرق وذلك تحت تأثير المحرض السائد في اللحظة التي تعيشها”.

يضيف لوبون “هذه الصفة الحركية المتغيرة التي تتميز بها الجماهير تجعل من الصعب حكمها وخصوصا عندما يسقط جزء من السلطات العامة في يدها”، ويحدد لوبون صفات الجماهير بـ “سرعة الانفعال وخفتها، سرعة تأثرهم وسذاجته وتصديقه لأي شيء، وعواطفها المتضخمة والبسيطة، تعصبها واستبداديتها”.

البقاء والاستمرار

صحيح أن تبني مطالب الجماهير واحدة من واجبات النائب فهو “يمثل الأمة بأسرها” أمام الحكم والحكومة وفق ما نص عليه الدستور، إلا أن ما يتبناه العضو اليوم لا يعكس “الأمة” ومصلحتها العامة بل الجزء الذي له أثر على مستقبله السياسي والبرلماني ، فلا يبالي – عضو مجلس الأمة – في خطورة ما يتبناه طالما يحافظ على بقائه واستمراره في المنصب.

وهو الواقع الذي بات يتحكم في العمل السياسي اليوم بعد أن تفككت ركائزه، فحركة الجماهير – أو المجاميع ذات المصلحة المشتركة – أخذت ترسم خطوط التشريعات وفق ما يخدمها ، فهي تملك ما يجعلها مسيطرة الى حد كبير على القرار، الثقل الانتخابي والتأثير الإعلامي، علاوة على ذلك فإن طرحها “الشعبوي العاطفي” قادر على جذب المؤيدين واحراج أعضاء مجلس الأمة كلا حسب دائرته الانتخابية.

ضعف الحكومة في مواجهة النواب وترددها أمام الشارع ساهم في تعزيز الواقع الجديد ، فكل ما ترفضه في البداية تجبر على القبول به في النهاية، لقد اعترضت على مقترح قانون “التقاعد المبكر” ولكنها رضخت في الأخير، بل وتقر أن القانون لخدمة فئة محدودة من المواطنين، ولا بد من الإشارة هنا الى أن سلوك الحكومة هذا أفقدها حلفاءها في البرلمان، فهم من كانوا يتصدون للمطالبات الشعبوية، ولكنهم استوعبوا الدرس بعد تلقيهم خسائر فادحة في أكثر من مواجهة، فلا ثقة في الحكومة ولا أمان في التعامل معها، وهو ما دفعهم الى الانتقال الى صفوف الجماهير.

اسقاط القروض

لم تكن تلك أول حادثة بل هي الأخيرة – حتى كتابة هذا التقرير – التي عززت أكثر من سلطة الجماهير ورغباتها ذات الجوانب المالية، فذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك بإحياء مطالب اسقاط القروض عن المواطنين مجددا، وإن كانت الحكومة اليوم ضد تلك المقترحات، فإن التاريخ يذكر أنها في سوابق ماضية مشابهة رضخت بطرق أخرى كلفة المال العام حوالي ٨٠٠ مليون دينار إذ وافقت على انشاء صندوقي “المعسرين” و”الأسرة”، وهو ما يطرح تساؤلا الى متى ستصمد الحكومة أمام المطالبات الجديدة؟

وينسحب ذلك الى ما هو أكثر تفصيلا من القوانين، فمعظم التعيينات – في كل المستويات – اليوم نتيجة ضغوط نيابية أساسها تحركات مجاميع قبلية وطائفية وفئوية، وليس كفاءات قادرة على إدارة العمل، لذلك فإن الجهاز التنفيذي غارق في فشل الإدارة والواسطة والرشاوى. الحكومة والبرلمان يقران بفشل الجهاز التنفيذي ولكنهما لا يملكان شجاعة الإشارة الى موضع الخلل بشكل مباشر، والمفارقة أن النواب ينتقدون ضعف الجهاز وفي الوقت ذاته يفرضون أسماء – أغلبها – غير جديرة بتولي المسؤوليات، والحكومة تقر بترهل جهازها ومع ذلك تقبل بترشيحات النواب في المناصب، وتدور العملية كلها في إطار إرضاء الصوت العالي لتلك المجاميع.

جميع تلك العوامل ساهمت في خلق بيئة مشجعة لصوت الجماهير العالي كلا بحسب احتياجاته، فهي تشعر بالظلم حين تجد المجاميع الأخرى تنال نصيبها من “ثروة المال العام”، وتشعر بغياب العدالة وانعدام المساواة حين تشاهد عملية توزيع المناصب وفق “كوتا” هي ليست جزءا منها، فترى أن من حقها جني بعض من المكاسب في خضم فوضى العملية السياسية وضعف السلطتين، ونظريا هو حق مشروع، أما عمليا فهو حق مدمر متى ما تعارض مع الآلية الصحيحة لإدارة شؤون البلاد.

وهناك فئة جماهيرية تحاول أن تمثل الصوت العقلاني في الطرح والمطالب، ولكنها آخذة في التلاشي مع استمرار الضعف الحكومي البرلماني ، وبدأت هي الأخرى في الانتقال الى صفوف الجمهور ذو الصوت العالي الذي يحقق الانتصارات تلو الانتصارات في مرمى السلطتين.

العمل السياسي المنظم

الكويت كدولة خليجية تتفرد بنظام ديموقراطي ولكن في حقيقته غير متكامل ويفتقد الى أهم عنصر فيه وهو العمل السياسي المؤسسي المنظم، فالحكم يتوجس من الأحزاب السياسية فرفضها، والحكومة تخشى الكتل البرلمانية فحاربتها ، والنواب يرون مصلحتهم في العمل الفردي، وهو ما يبرر قبول جميع الأطراف بالنظام الانتخابي ذو الصوت الواحد ، ويعلل التنازلات من الجميع لإبقاء الجماهير في خانة الرضى وإن كان “شكليا ومؤقتا وخطرا على ديمومة الدولة”.

لا يلوح في الأفق – رغم كل الأحداث والأوضاع التي تمر بها الدولة – ما يعطي مؤشرات إيجابية على استيعاب أصحاب القرار والسلطتين التشريعية والتنفيذية لخطورة انحسار العمل السياسي السليم، وتلاشي الكتل البرلمانية التي كانت محركا لتوجهات مجلس الأمة، وزوال مفعول القوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني ودورها في توجيه الشارع العام، وسطوة الصوت الجماهيري العالي على القرار، والأهم مما سبق اصرار الحكومة على تجاهل مسؤوليتها كجهاز تنفيذي يدير مفاصل الدولة.

استمرار تلك الصورة القاتمة للأوضاع تنذر بتوسع دائرة الانحراف للتشريعات الكويتية التي وصلت الى مرحلة غير مسبوقة من التشابك والتناقض بعد سيطرة الجماهير على رسم مسارها، وبأزمات أعمق مع غالبية الشارع العام الذي أخذت سقف مطالبه ترتفع بصورة لافتة، وقد تتكون حالة أكبر من الكراهية والرفض لوجود المؤسسة التشريعية، وتولد مجتمع حاقد على الحكومة ، فإن فات آوان الإصلاح بعودة العملية السياسية الى مسارها السليم مع تطويرها، فإن الخطر قد يمس مؤسسة الحكم التي تعاني اليوم من فراغ في صفوفها المستقبلية.

نسخة PDF: العمل السياسي في الكويت: وهن السلطتين وسطوة الجماهير