تعاني الحياة السياسية في الكويت من إخفاقات متواصلة رغم كل المتغيرات التي شهدتها خلال السنوات الماضية على مستوى السلطتين التشريعية والتنفيذية، ويعزو البعض ذلك الى أن تغير الأسماء لا يصاحبه تغييرا في نهج الإدارة الحكومية أو المعارضة النيابية، وهو ما يؤدي الى استمرار مسار التصعيد السياسي والتصادم بين السلطتين.
ولكن ما هو “النهج” المطلوب احلاله لتحقيق انفراجة سياسية في الدولة تصلح المسار؟ لن تخرج الإجابة – لأي سياسي – عن اطار احترام الدستور وتفعيل مبادئه وتطبيقه نصوصه وحماية المال العام وصون الحريات، فهو النظام الذي تقوم عليه الدولة، وأساس شرعية الحكم، ومنظم العلاقة بين السلطتين، ومحدد واجبات وحقوق الشعب، فهل فعلا الالتزام بالدستور مفتاحا للخروج من الأزمة؟ هل هذا النهج المطلوب تفعيله يمكن أن يشكل ضمانة للاستقرار؟
دستور مهجن
نظريا نعم، إلا أن أعضاء السلطتين التشريعية والتنفيذية – والاستثناء هنا شبه مستحيل – يدركون أن التمسك بدستور ٦٢، بكل ما يحمله من مبادئ ونصوص لا يمكن أن يستقيم مع مشاريعهم السياسية والانتخابية، فهو يتقاطع ويتعارض معها، لذا فقد صنعا على مدى السنوات الماضية نظاما هجينا مواز للدستور، يستخدم الديمقراطية لتعزيز ديكتاتورية التوجه والقرار والتفرد بالرأي، وتكسر تحت مظلته كل القوانين باسم العدالة والمساواة وانتزاع الحقوق، قواعده مبنية على الأهواء الشخصية أو الانتقامية، والمصالح الانتخابية والسياسية.
هذا النظام الهجين هو الذي يسير الحياة في الكويت اليوم، والمحرك الرئيسي لأجهزة الدولة، وما يعقد من الأزمة، أنه بات ثقافة الأغلبية من شيوخ ووزراء ونواب ومواطنين، وحتى وافدين، وأصبحت الممارسة العامة لشؤون ادارة الدولة لا تخرج عن نطاقه في كافة الأعمال، واستحسن الجميع العبث في استبدال المفاهيم والمصطلحات والأفعال غير القانونية بأخرى حتى تبدو مشروعة ومقبولة.
تآكل الديمقراطية
تآكلت الديمقراطية في الكويت بشكل متسارع في السنوات الأخيرة، وابتلع النظام الدستوري الهجين كل أخلاقيات العمل السياسي السليم ، وشوه كل الممارسات البرلمانية وأدواتها، فتأجيل الاستجوابات – على سبيل المثال لا الحصر – الى آجال بعيدة وصلت الى حد المزمع تقديمها، وشطب محاور ورفع استجوابات عن جدول الأعمال، كلها ردود فعل غير دستورية على استجوابات تحمل شبهات دستورية.
ولم تسلم القوانين من العبث، فالمنظومة التشريعية فقدت توازنها وأصبحت تتعارض مع دستور ٦٢ ومتسقه مع النظام الهجين، فقوانين مثل حرمان المدان في قضايا المساس بالذات الإلهية والأميرية من حقوقه السياسية، وتطبيق عقوبة الإعدام على المدان في قضايا المساس بالذات الإلهية والأنبياء، وفرض البصمة الوراثية على جميع سكان الدولة، وكذلك التضييق على الحريات بكافة أشكالها، جميعها نماذج لتشريعات صدرت بالمخالفة للمبادئ الدستورية، بعلم مقدميها من النواب وبتأييد من الحكومة والوزراء، ودعم من الجمهور لها.
الإصلاح مستحيل
في خطاب استقالتها الشهير، قالت وزير الأشغال العامة الأسبق د. جنان بوشهري أن الإصلاح أصبح مستحيل في قاعة عبدالله السالم التي باتت مختطفة، وكرر وزيرا الدفاع والداخلية، الشيخ حمد جابر العلي والشيخ أحمد المنصور في بيان استقالتهما مؤخرا ذات الأسباب ” في الوقت الذي نسعى فيه جاهدين للعمل والانجاز إلا أنه للأسف أصبح تحقيق الإصلاح شبه مستحيل”.
ويقول النائب المستقبل يوسف الفضالة في بيان استقالته من عضوية مجلس الأمة ” لا خروج من الأزمات المتتالية إلا بالعودة إلى روح الدستور والشرعية الشعبية فهذه الممارسات غير الدستورية خلقت مناخا سياسيا سلبيا طغت عليه عدم الثقة والتخوين والحدة بالتعامل في أروقة مجلس الأمة وخارجه من جميع الأطراف مما يجعل الاستمرار في العمل السياسي بهذا المناخ ضربا من العبث”.
لم تحرك تلك البيانات أي طرف في الدولة، فالحكم استقبل الوزراء المستقيلين يشكرهم على جهودهم ويشيد بها، والحكومة عينت بدلاء عنهم ولم تعنيها الأسباب، والنواب يضغطون لقبول استقالة النائب الفضالة للحصول على مقعده، ولم يتوقف أي طرف عند جسامة ما جاء في بيانات الاستقالات .. سارت الحياة السياسية بنمطها المشوه في ظل النظام الدستوري الهجين، بقبول ورضى الجميع.
لذا فإن الإصلاح في الكويت في ظل العوامل السابقة .. مستحيل.
نسخة PDF: الكويت بعد عقود من الاستقلال .. ديمقراطية متآكلة ودستور مهجن صنيعة السلطتين
