لم يكن المشهد مألوفا في الحياة البرلمانية الكويتية، يدخل الوزراء الى قاعة عبدالله السالم وسط تصفيق نيابي وإشادة بهم على غير العادة، وعلى جهودهم في مواجهة جائحة فيروس كورونا المستجد، وخارج مبنى البرلمان توحد الكويتيون خلف حكومتهم داعمين لها في مواجهة الوباء الذي أعاد رسم مفهوم الحياة عالميا.
الأسابيع الأولى
كانت [inlinetweet]تلك الأسابيع الأولى الأغرب في مسار الديمقراطية الكويتية[/inlinetweet]، حيث تبدلت المواقع الشعبية، فانتقلت من السلطة التشريعية الى التنفيذية، وصورة الأبطال السياسيين لم تعد ممثلة في نائب معارض يهدد بأدواته الدستورية، بل بوزير ينشر صوراً له بحسابه على مواقع التواصل الاجتماعي يقوم بعمل ما، إنها سابقة لم يكن مخططا لها من قبل مجلس الوزراء برئيسه الجديد سمو الشيخ صباح الخالد، إلا أن [inlinetweet]فيروس لا يرى بالعين المجردة نجح في تغيير الواقع السياسي[/inlinetweet]، وإن كان ذلك بشكل مؤقت.
اختفى أعضاء مجلس الأمة من المشهد السياسي مرغمين، فبضاعة المعارضة التي كان لها سوقا رائجة قبل الجائحة لم تعد ذات صدى، ونفوذهم في الدوائر الحكومية تجمد تماما بعد قرار مجلس الوزراء التعطيل الرسمي لها، كانت الأجواء مختلفة كليا عن أي فترة سياسية سابقة، ويصدف أن تتزامن بأوقات حرجة حيث ينتظر مجلس الأمة أن يطوي صفحته الأخيرة من الفصل التشريعي، والنواب أمام استحقاقات انتخابية قادمة.
الديكتاتورية العادلة
خلقت هذه الحالة الفريدة من نوعها أفكارا جريئة داخل الأوساط الشعبية “البسيطة” عن قيمة المؤسسة التشريعية وأهميتها في موازاة نجاح السلطة التنفيذية في إدارة الدولة باقتدار، وفي المفاهيم السياسية وتنظيماتها فأن هذه الأفكار تتشابه مع نموذج “الديكتاتورية العادلة” المعمول به بعدد من دول المنطقة، ولا شك أن [inlinetweet]هذا التوجه يشكل خطورة على الدولة الدستورية حين يرى الشعب نظامه الديمقراطي عبء[/inlinetweet] على تقدم الدولة واصلاحها.
في مقابل ذلك، [inlinetweet]كانت النجومية الحكومية مسيطرة على الساحة تماما[/inlinetweet]، إجراءات غير اعتيادية في مواجهة الوباء، تواصل مباشر مع المواطنين دون وسيط نيابي كما جرت العادة، وقرارات سريعة من فرض الحظر الجزئي وإغلاق مطار الكويت الدولي وتشغيل المحاجر الصحية، وتشغيل الخدمات الالكترونية في كثير من الجهات الجهات الحكومية، وغيرها من الخطوات التي نالت استحسانا واسعا من قبل المواطنين.
هلع “كورونا”
في الواقع، ليس بالضرورة أن يكون النجاح الحكومي في إدارة ملف أزمة “كورونا” هو السبب الحقيقي في الإلتفاف الشعبي حول الحكومة، فالهلع الذي عم العالم من مفاجأة الفيروس وسرعة انتشاره، وعدد الإصابات والوفيات لم يستثنِ الكويت وسكانها، وقد يكون ذلك المحرك الرئيسي الذي دفع المواطنون نحو المؤسسة التنفيذية وأجهزتها، فلم ير الشارع الأخطاء الإجرائية أو تغاضى عنها، ولم يكن هناك تدقيق في سلامة المناقصات والصرف المالي، لقد شل فيروس كورونا المستجد الحياة الديمقراطية والأدوات الرقابية في الكويت.
وفي زحمة ما اعتبرته الحكومة والوزراء انتصارا مبكرا على المؤسسة البرلمانية والنواب، ونجاحا في كسب ثقة الشارع بأعمالها، تراجع مستوى الهلع بين المواطنين شيئا فشيئ، وتقبل المواطنون واقع التعايش مع “كورونا” والقبول به كأي مجتمع آخر، هنا [inlinetweet]بدأت الحسابات تتغير مجتمعيا وسياسيا مع تحول لافت في مسارات التعامل مع السلطة التنفيذية[/inlinetweet] وأعضائها، فما كان محظورا انتقاده بالأمس أصبح مشروعا ومطلوبا اليوم.
نبش الملفات
بدأ الأغلب ينبش في الملفات الماضية والحالية، في المناقصات الحكومية وقيمها وكيفية ترسيتها، بدأت الانتقادات تطال الوزراء “الأبطال” في مرحلة ما، وعلى رأسهم وزير الصحة د. باسل الصباح الذي تعرض لانتقادات واسعة من داخل الجسد الصحي والكوادر الطبية على إجراءاته، وكذلك وزير التجارة والصناعة خالد الروضان الذي اضطر مدفوعا بالغضب الشعبي الى سحب قرار إضافة الكمامات الطبية الى البطاقة التموينية وأسعارها، ونائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية ووزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء أنس الصالح في ملف تجار الإقامات، ولم تسلم وزير الدولة لشؤون الاقتصادية ووزير الشؤون مريم العقيل من سهام المواطنين بسبب تصريحاتها عن التركيبة السكانية وتكاليف إيواء الوافدين من التبرعات الخيرية، وأيضا وزير الإعلام محمد الجبري الذي شكل لجنة تحقيق بشأن المسلسلات الرمضاينة بعد الضغط الشعبي عليه.
وبالإضافة الى كل ما سبق، الضغط الشعبي والنيابي على وزير الخارجية د. أحمد الناصر الصباح لإعادة المواطنين والطلبة من الخارج، ولا يفوت من هذا كله، ردة الفعل على مشروع قانون الدين العام الذي قدمه وزير المالية براك الشيتان .. لقد أصبح أغلب الوزراء في مرمى الأهداف الشعبية وبالتبعية النيابية .. لقد فتحت كل الملفات على مصراعيها ..
مع إعلان الحظر الكلي زاد الغضب الشعبي أكثر، وما خلفه من فوضى في مراكز التسوق، والأسئلة العديدة التي لم تجد لها إجابات حتى الآن، و[inlinetweet]لم تنجح المؤتمرات الصحفية لأعضاء الحكومة من التخفيف من حدة الإمتعاض[/inlinetweet]، بل تحولت الى عبء عليهم، وتزيد من مساحة التباعد بين الحكومة والشعب.
التوازن السياسي
[inlinetweet]لقد حان الوقت، مع هذا التراجع الشعبي للحكومة، لإعادة التوازن السياسي بين السلطتين[/inlinetweet] التشريعية والتنفيذية، ويمكن قياس ذلك عبر ملفات رئيسية طرحت، مشروع قانون الحكومة للدين العام والذي تعرض لصدمة الاعتراض عليه من رئيس مجلس الأمة مرزوق الغانم والنواب، ومشروع تعديل قانون العمل الأهلي بما يسمح لأصحاب العمل بتخفيض الرواتب الذي نال رفضا نيابيا واسعا مبكرا، ومطالبات الأعضاء لإعادة الأرباح المحتجزة لدى مؤسسة البترول الكويتية المقدرة بحوالي ٧ مليار دينار للاحتياطي العام، وغيرها من القضايا الثانوية.
جاء [[inlinetweet]المدخل النيابي على الحكومة من بوابة الأموال العامة، وهي الكلمة السحرية والأكثر شعبوية[/inlinetweet] لعودة الأعضاء الى المشهد السياسي وإعادة الشارع الى معسكرهم، وكسر الاحتكار الحكومي للساحة وإعادة تنظيم الاصطفافات، ساهم في ذلك [inlinetweet]الانشغال الحكومي بالإضواء الإعلامية على حساب استمرار البدايات الناجحة، والتخبط في القرارات[/inlinetweet] بعد أن أصبحت لاعبا منفردا لا تستمتع للآراء والانتقادات بل ويضيق صدرها منها.
الصفعة النيابية
كانت [inlinetweet]فرصة لا تعوض للنواب للهجوم على الحكومة فأحسنوا استغلالها[/inlinetweet] متسلحين في ذلك بالغضب الشعبي الجديد، في المقابل أدرك الوزراء أن الأجواء لم تعد في صالحهم، ورصيدهم تآكل كثيرا، فابتعدوا عن الإعلام وتراجعت وتيرة قراراتهم واتسم بعضها بالتخبط والتسرع، ولكن الصحوة الحكومية جاءت متأخرة.
الأسبوع الجاري، المنازلة الثانية ما بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في قاعة عبدالله السالم، فهناك جلسة لمناقشة الحكومة في إجراءاتها والنظر في مشاريع القوانين التي تريد تشريعها، وسط تساؤلات عن إمكانية عقدها مع “الحظر الكلي”، ومع ردود الفعل النيابية المطالبة بعقد الجلسة، يتأكد أن النواب لن يقفوا مجددا للتصفيق للوزراء فهذا الزمن انتهى، وعلى الحكومة الاستعداد لتلقي صفعة نيابية – بعد الشعبية – أملا في تحقيق بعض المكاسب قبل الانتخابات النيابية.
نسخة PDF: هلع كورونا يتراجع .. والتصفيق النيابي الشعبي للحكومة يتحول إلى صفعة